أشرف غريب يكتب: امرأة من مصر – كتاب الرأي
قبل خمسة وعشرين عاماً، وبالتحديد فى العشرين من سبتمبر 1999، رحلت عن عالمنا الفنانة تحية كاريوكا، مُخلفة وراءها كثيراً من علامات الاستفهام، سواء فيما يخص حياتها الفنية أو حياتها الخاصة.
وأياً ما كان موقفك منها، معها أو ضدها، تفهمت رداتها التى كانت انفعالية غالباً أو استهجنتها، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر الحقيقة المؤكدة والوحيدة، وهى أن تحية كاريوكا علامة مهمة فى تاريخ الفن العربى المعاصر خلال ما يقرب من خمسة وستين عاماً أمضتها فى خدمة فن التمثيل والرقص الشرقى، ثم رحلت فى صمت قبل ربع قرن وهى التى لم تألف هذا الصمت فى حياتها التى ملأها الصخب وأنهكها الضجيج.
دخلت كاريوكا عالم التمثيل من باب الرقص الشرقى، هذه حقيقة لا ينكرها أحد، لكنها ومنذ أن اعتزلت الرقص نهائياً بعد نجاح فيلميها الشهيرين -سمارة» و-شباب امرأة» سنة 1956 أصبحت ممثلة فقط، لا يكاد يتذكر لها جمهورها من فرط إتقانها التمثيل أنها كانت ذات يوم راقصة لها حضورها الأخاذ وأسلوبها الخاص، لا سيما بعد أن انتبهت لطبيعة المرحلة العمرية التى كانت تمر بها، وتحولت إلى أدوار المرأة الناضجة فى طريقها إلى الاستئثار بأدوار الأم التى أفرغت فيها كل طاقاتها الفنية، وربما الإنسانية، على خلفية عدم ممارستها لدورها كأم فى الحياة رفم تعدد زيجاتها.
وعلى ذكر زيجاتها، فقد انشغل الناس كثيراً بإحصاء عدد أزواج كاريوكا، خاصة بعد تصريحها الشهير بأنها تزوجت ثلاث عشرة مرة لا تتذكر منها غير سبعة أزواج فقط، ورغم أننى شخصياً استطعت أن أحصى لها سبعة عشر زوجاً فإن ما يعنينى الآن ليس عدد أزواجها وإنما تفسير تلك الحقيقة الصادمة فى حياتها الشخصية، وهى أن كل أزواجها تقريباً قد خانوها فى وقائع شهيرة تعرفها الحياة الفنية بالتفصيل.
وفى ظنى فإن قوة شخصيتها وحدة ردود أفعالها وسطوتها الطاغية على كل من حولها كانت السبب وراء هذه الخيانات المتكررة، فالرجل الشرقى لا يحب عادة أن تكون زوجته أقوى منه، وإذا حدث فإنه فى رحلة بحثه عن متنفس لقوته قد يلجأ إلى من تشبع فيه هذا الإحساس، فتحدث الخيانة، وهذا يفسر لماذا كانت كاريوكا دائماً هى من تطلب الطلاق.
هذا كله ليس المهم فى مسيرة كاريوكا، لكن ما يجذبنى للوقوف أمامه فى ذكرى مرور ربع قرن على رحيلها هو ذلك الدور الوطنى البارز الذى اطلعت به هذه الفنانة الاستثنائية، لقد كانت كاريوكا مصرية صميمة تمتعت بإحساس وطنى أصيل لم تكن تخشى فى إظهاره لومة لائم أو بطش ظالم، فهى التى تحدّت كثيراً الملك فاروق فى ذروة نفوذه وجبروته.
وهى التى أخفت الرئيس السادات فى مزرعة شقيقتها بالإسماعيلية فى مرحلة كفاحه ضد الاستعمار وأعوانه قبل يوليو 1952، وهى التى كانت تقوم بتهريب السلاح إلى الفدائيين فى منطقة القناة بعد إلغاء معاهدة 1936 فى أكتوبر 1951، وهى التى كانت تقود فنانى مصر فى حملات التبرع بالدم وقت حروب مصر الكبرى فى 1956 و1967 و1973.
وهى التى ساهمت فى حملات تسليح الجيش المصرى وقطار الرحمة وأسابيع المستشفيات ومعونة الشتاء، بخلاف عشرات المواقف الوطنية التى يذكرها لها التاريخ المصرى.
لقد تربت كاريوكا منذ طفولتها الباكرة فى الإسماعيلية على حب الوطن، وأدركت بوعيها الفطرى أن مصريتها تسبق مصالحها، وأن دورها فى العمل العام هو الأصل، ولذلك ستبقى ذكراها ماثلة فى الأذهان ليس فقط كفنانة ناحجة وإنما أيضاً كمصرية أصيلة لم تتأخر يوماً عن خدمة وطنها مهما كلفها ذلك من أثمان.