شـواطئ.. روسيا والغرب.. لمن الغلبة؟ (3)
عبر تطبيق
يتابع عالم السياسة الشهير ألكسندر جليبوفيتش رار فى كتاب (روسيا والغرب.. لمن الغلبة؟) والذى نقله إلى العربية (محمد نصر الدين الجبالى) بقوله: وفى الاتحاد السوفيتى كانت القوى القومية البلشفية وتفكيك الاتحاد السوفيتى إلى عدد كبير من الدويلات الصغيرة والتى من السهل السيطرة عليها واستعمارها. وكان الغرب يراقب عن كثب وبمشاعر القلق عملية تفكيك الاتحاد السوفيتى أملا فى أن تتم هذه العملية فى إطار من “الحكمة”. ودعم الغرب ظهور دول ذات سيادة فى منطقة البلطيق ولكنه كان يتفهم فى الوقت نفسه أنه ما تفكك الاتحاد السوفيتى إلى دويلات قومية صغيرة تحارب بعضها بعضا فإنه سيصبح من المستحيل تحقيق السلام والإزدهار الاقتصادى فى القارة الأوروبية. وكان للجمهوريات السوفيتية السابقة التى خرجت من تحت سيطرة موسكو رؤى مختلفة حول مستقبل الدولة الروسية. فكل منها بدأ يرسم هويته بشكل مستقل تماما عن موسكو.
وفى عام 1990 شعر الروس بالغضب من نظرة العالم العدوانية تجاههم وأن كثيرا من الدول لا تفرق بين الشيوعية وعملية الروسنة. فكما هو الحال مع ممثلى القوميات الأخرى أصبح الروس يعون هويتهم التاريخية والقومية والتى تم تشويهها تماما إبان حكم ستالين.
ولم يصل علم السياسة بعد إلى حسم الجدل فى النقاش الدائر عن سبب انهيار الاتحاد السوفيتى: هل كانت سياسة ريجان الصارمة فيما يتعلق بسباق التسلح أم هى الدبلوماسية الألمانية “التحولات عبر التجارة”؟ لقد ساعد توجه ألمانيا الشرقى فى سياستها إلى التخفيف من السياسة الداخلية للاتحاد السوفيتى وظهرت رغبة لدى القيادة والمجتمع السوفيتى فى إجراء إصلاحات واستنشاق رياح التغيير المنعشة.
غير أنه فى بداية الثمانينيات اصطدمت هذه السياسة مرة أخرى برفض الإدارة الجمهورية فى واشنطن، حيث بدأ ريجان فى تنفيذ برنامجه “حرب النجوم” موقنا أن موسكو لن تتحمل سباق تسلح طويل. وحظر على قطاع الصناعة فى ألمانيا تصدير التكنولوجيا الغربية إلى الاتحاد السوفيتى، وتم تهديد الشركات بعقوبات قاسية. وفى عام 1982 عاد الديمقراطيون المسيحيون إلى السلطة فى ألمانيا بزعامة هيلموت كول. ولكن سرعان ما بدأت البيروسترويكا فى الاتحاد السوفيتى وبدأت السلطات السوفيتة نفسها فى التخلص من الأسلحة وتخفيض ترسانتها العسكرية.
ومع نهاية الثمانينيات كان الاقتصاد الألمانى هو الأقوى فى أوروبا، ولذا كان من الواضح أن ألمانيا ستلعب دورًا فى التغيرات الدراماتيكية التى سادت أوروبا فى تلك الفترة.
واليوم يتم الكشف عن العديد من الوثائق التى تعود إلى عشرين عاما مضت. ويتضح منها أن جورباتشوف كان يعول على الكرم الألمانى ولذا فقد دعم توحيد ألمانيا بدرجة تفوق دعم الشركاء الغربيين. فقد وافق هؤلاء على توحيد ألمانيا بشرط التخلى عن المارك الألمانى فى صالح العملة الأوروبية الجديدة – اليورو- وتسخير القوة الاقتصادية الألمانية لصالح التكامل الأوروبى فى المستقبل.
كان اتحاد ألمانيا يجرى فى نفس الوقت الذى ينهار فيه الاتحاد السوفيتى وهو ما اعتبر تحولا تاريخيا مفاجئا فى أوروبا فى نهاية القرن العشرين. فبالنسبة للغرب المنتصر فى الحرب الباردة يعتبر النجاح الكبير الذى تحقق أرضية يمكن عليها بناء النظام العالمى الجديد. وشهدت أوروبا الشرقية انتشار للقيم الليبرالية واقتصاد السوق وقواعد دولة القانون والديمقراطية. وبالطبع كانت هذه المأساة مثار نشوة واستمتاع لدى القادة فى واشنطن. فالناتو بزعامة واشنطن أصبح الضامن الأول والوحيد للأمن والاستقرار فى أوروبا، أما الاتحاد الأوروبى فمصيره الاقتصادى مرتبط بأمريكا ويعتمد تماما على العلاقات عبر الأطلسى. وبدا أن حل القضية الألمانية سيجلب لأوروبا “سلاما أبديًا”. وفى الوقت نفسه لا أحد فى أوروبا يهتم بحل القضية الروسية. فروسيا كطرف مهزوم فى الحرب الباردة أصبحت خارج كل الحسابات. ولكن أوروبا لا تستطيع الاستمرار دون روسيا، وخلال 25 عاما سيكون على أوروبا دفع الثمن كاملا.
ونعود إلى أحداث 1989-1990. تعرضت القيادة الألمانية الشرقية لضغوط من أطراف ثلاثة، فقد بادر جورباتشوف قبل خمسة أعوام بإطلاق إصلاحات راديكالية فى بلاده وهو يطالب الدول الصديقة ومنها ألمانيا الشرقية بخطوات مماثلة. ورفض الزعيم الألمانى الشرقى هونيكير هذا المقترح وخسر بذلك دعم موسكو. فضلا عن ذلك فقدت ألمانيا الشرقية الآلاف من مواطنيها الذين فروا إلى الغرب عبر حدود الدول المجاورة والتى حققت نجاحات فى تطبيق الديمقراطية.
وفى النهاية شهدت ألمانيا الشرقية احتجاجات ومظاهرات حاشدة، ورفعت المظاهرات شعار “نحن الشعب” ونجحت فى دق آخر مسمار فى نعش النظام الشيوعى هناك. وقد نجح السياسيون فى ألمانيا الشرقية فى الحفاظ على نجاحهم الوظيفى بعد تأسيس ألمانيا الموحدة، حيث تقلدوا أرفع المناصب.
ولعبت المظاهرات السلمية فى ألمانيا الشرقية وبلدان حلف وارسو دورًا مهما فى سقوط النظام الشيوعى. غير أن الواقع التاريخى يتطلب الاعتراف بأن موسكو بوصفها مركز العالم الشيوعى هى المحرك الرئيسى للتغيرات الديمقراطية فى أروربا الشرقية. فلولا سياسة البيروسترويكا السوفيتية التى أضعفت كلا من الجيش والحزب وجهاز المخابرات لم تكن الشعوب الشيوعية فى شرق أوروبا لتتمكن من الحصول على حريتها على هذا النحو السلمى.
وعلى الرغم من سقوط حائط برلين قام الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران بالتوقيع على اتفاقيات تجارية طويلة الأمد مع ألمانيا الشرقية. وقد وافق على التوحيد فقط بشرط موافقتها على تأسيس العملة الأوروبية الموحدة. أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت على استعداد للسماح بتوحيد ألمانيا بشرط أن تصبح داعمًا رئيسيا للناتو. وهكذا سعت أمريكا وفرنسا إلى أن يؤدى توحيد ألمانيا إلى انصهارها أكثر فى الهياكل العسكرية والاقتصادية الأوروبية والأطلسية. وليس بمقدور روسيا مواجهة ألمانيا. فالاتحاد السوفيتى كان يرغب فى تأسيس هيكل أوروبى للأمن وتفكيك جميع التحالفات العسكرية، وكان يطرح ذلك كثمن لموافقتة على التوحيد.
وللحديث بقية