فتنة الإيجار الجديد!
عبر تطبيق
تدرك الحكومة قبل المواطن تداعيات اتجاهها نحو تحرير أسعار الطاقة ورفع رسوم أغلب الخدمات والمرافق العامة على ارتفاع تكاليف الحياة من أسعار السلع الغذائية الأساسية والدواء وصولًا إلى العقارات والشقق السكنية؛ الأمر الذى يلزمها بالتدخل لضبط الأسواق لاسيما وأننا مازلنا لم ننتقل فعليًا إلى ما يسمى بالاقتصاد الحر.
لن أخوض هنا في أسعار الخضروات والأغذية الأساسية ولا حتى الدواء الذى يشهد أزمة منذ نحو ستة أشهر؛ ذلك أن الحكومة مازالت على مستوى بياناتها الرسمية على الأقل تعلن عن اتخاذها إجراءات من شأنها ضبط أسعار السلع مثل عمل مبادرات وتنظيم معارض وفتح منافذ بيع؛ ومازلنا على موعد مع نهاية سبتمبر الجاري لحل أزمة الدواء نهائيًا بحسب وعود رئيس الوزراء وتصريحات شعبة الأدوية.
وبين وعود الحكومة وبيانات الغرفة التجارية تبقت مساحة محدودة أمام المواطن المستهلك للمناورة أى التعايش مع ارتفاعات الأسعار المجنونة وإن شئت الدقة التحايل على معدلات التضخم الملموسة واقعيًا بعيدًا عن المعلن بشأنها رسميًا.
ما يهمني هنا أزمة السكن التي تطل برأسها ملوحة لنا بفتنة بين المصريين هذه المرة. لم تفلح مؤامرات المحتل الأجنبي على مدى التاريخ، ولا خطط أجهزة المخابرات المعادية في أكثر لحظات ضعف المجتمع المصري وشيوع الأفكار المتطرفة والمتشددة؛ في إشعال فتنة طائفية بجسد الأمة المصرية ونسيجها الواحد. المصري البسيط لديه وعي حضاري أن المسلم والمسيحي والمؤمن وغير المؤمن، الكل خلايا تذوب وتنصهر داخل جسد الأمة ولا يمكن الاستغناء عن أي منها؛ بل أن انتهاك حق من حقوق أحداها، أو مجرد النظر إليها بشيء من التمييز على أساس ديني أو مذهبي؛ من شأنه إضعاف الجسد المصري ومرضه وإصابته بتشوهات وقرح لا تطيق باقي الخلايا أوجاعها وآلامها. مصر العصية على كل محاولات إزكاء الفتنة باتت مهددة بما يمكن تسميته بالفتنة العقارية أو بالأحرى فتنة الإيجار الجديد. كل يوم نسمع فيه المزيد من المآسي والقصص المظلمة التي تروى حكاية طرد عائلة مصرية بعد انتهاء عقد إيجار شقتها لأن المالك طلب ثلاثة أضعاف القيمة الحقيقية؛ ناهيك عن مئات الاستغاثات التي تطلقها ودون توقف أسر مصرية مفادها أن المالك يهدد ويتوعد بالطرد بمجرد انتهاء عقد الإيجار مع نهاية العام الجاري.
من الأمثلة الواقعية التي أعايشها يوميًا ارتفع سعر الشقة في أزقة وحوارى عابدين والتي لا تزيد مساحتها عن ٦٠ إلى ٧٠ متر من ألفى إلى تسعة آلاف جنيه، وفى مدينة نصر من خمسة آلاف إلى عشرين وخمسة وعشرين ألف جنيه. في المجمل أصبح من شبه المستحيل أن تجد شقة في الأحياء المتوسطة ايجارها الشهري يقل عن خمسة عشر ألف جنيه وفي الأحياء الشعبية بعيدًا عن منطقة وسط البلد عن سبعة آلاف جنيه، أما في المناطق العشوائية كثيفة السكان فوصل إيجار شقة غرفة وصالة وحمام بدون مطبخ إلى ألف وخمسمائة وأحيانًا ألفين جنيه.
بعيدًا عن التشنج والصراخ؛ القصة بهدوء تتلخص في أن توافد أعداد هائلة من اللاجئين على خلفية الحرب الأهلية السودانية (نسبة منهم ليست قليلة من دول افريقية حصلوا بشكل ما على الجنسية السودانية) قد أضرم النار في أسعار شقق الإيجار الجديد. فى عز أزمات ليبيا وسوريا واليمن وقبلها العراق لم تشهد أسعار الإيجار الجديد هذا الارتفاع الجنونى، وكل ما شاهدناه ارتفاعات طفيفة لم تؤثر بشكل خطير على قدرة المواطن المصرى، ربما لأن وطئة معدلات التضخم لم تكن على هذا النحو الخطير. ندرك أن هيكل الاقتصاد المصرى مازال يعانى من تشوهات تحاول الحكومة كما تقول على لسان رئيس الوزراء معالجتها عبر برنامج الاصلاح الاقتصادى من خلال شراكتها مع صندوق النقد الدولى. ولأننا وفقًا للحكومة مازلنا نمر بمرحلة التحول إلى الاقتصاد الحر، لا ينبغي ترك ايجارات الشقق لقاعدة العرض والطلب، مع وجود عامل طارىء هو توافد ملايين اللاجئين إلى بلادنا التي يعانى اقتصادها ومازال يواجه تحديات كثيرة باعتراف الحكومة. الدول الرأسمالية التي اكتمل بناء نظامها الاقتصادي على أساس السوق الحر، تدخلت حكوماتها لمعالجة أزمة مماثلة بسبب توافد ملايين اللاجئين اليها. هذه الحكومات لها تجارب يتعين على حكومة المهندس مصطفى مدبولى الاستفادة منها لأن أعراض الاصلاح الاقتصادى وارتفاع أسعار السلع الأساسية سيدفع بالضرورة ملاك الشقق إلى هذا السلوك باعتبار عائدات ايجارها أحد أدواتهم لمواجهة التضخم. سياسيًا وأخلاقيًا يتعين على الحكومة إصدار قرار مؤقت مدة ثلاث سنوات على سبيل المثال يقضى بعدم رفع أسعار الإيجار الجديد بنسبة تتجاوز ٢٠٪ أو حتى ٢٥٪، ذلك أن الكلفة السياسية لتشريد آلاف الأسر أكبر من طاقة احتمال أى حكومة علاوة على أن ضمان الحق فى السكن للذين لا تمكنهم دخولهم من تملك شقة، أو الاستفادة من مشروع الإسكان الاجتماعي على رأس قائمة التزامات الحكومة تجاه مواطنيها.