التخطي إلى المحتوى

الكنيسة القبطية في إثيوبيا.. ما بين التبعية الروحية والتوترات السياسية

تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
google news

كانت العلاقة الجيدة بين الدولتين المصرية والإثيوبية خلال بعض الفترات الزمنية هي امتداد للعلاقات الجيدة بين الكنيستين القبطية والأثيوبية، وبالعكس حينما بدأت التوترات بين الكنيستين امتدت بالتبعية إلى العلاقات السياسية بين الدولتين، وما بين التبعية الروحية والتوترات السياسية هناك قرون طويلة شهدت اندماجاً للمزاج الإثيوبي مع المزاج القبطي، تذوق خلالها الشعب الإثيوبي للثقافة القبطية حتى باتت مكوناً من تعاليمه ومصدراً أساسياً لتشكيل وجدانه. 

وحسب ما رواه بعض المؤرخين اليونانيون مثال سقراط – وثيودورس القارئ، فإن المسيحية انتقلت إلى إثيوبيا في منتصف القرن الرابع الميلادي بمعرفة كل من: فرومنتيوس – وإيديسيوس من صور (لبنان) وكانا تلميذان لفيلسوف يدعى (مروبيوس)، وكانا في رحلة عودة من الهند ورست بهما السفينة في مينا بالحبشة لقضاء بعض الاحتياجات.

فتم القبض عليهما وإعدام كل من على السفينة فيما عدا فرومنتيوس – وإيديسيوس فتم اقتيادهما وتسليمهما كهدية لملك الحبشة، وعاشا في قصر الملك هناك فترة طويلة، ولما مات الملك طلب منهما تربية ولي العهد حتى يبلغ سن الرشد، وخلال تلك الفترة اهتما بجمع المسيحيين الغرباء وتأسيس كنائس ومدارس انضمت لها أبناء البلد الأصليين أيضاً، ولما كبر ولي العهد سمح للرجلين بمغادرة البلاد والعودة الى أوطانهما.

فعاد إيديسيوس إلى موطنه صور، بينما توجه فرومنتيوس الى مصر وتقابل مع البابا أثناسيوس وحكى له قصة المسيحيين في الحبشة وطلب منه رعايتهم، فرسمه البابا أسقفاً للكنيسة الوليدة في الحبشة وأرسله للخدمة والتبشير هناك عام 326م، فكان فرومنتيوس أول أسقف للكنيسة. 

وجرى العرف أن تتم رسامة أسقف من الكنيسة القبطية وإرساله للخدمة في الحبشة بعد انتقال من سبقه، واعتبر الحبشيون مار مرقص كاروز الديار المصرية أب لهم ، بينما صارت كنيسة الإسكندرية أما لهم، واستمر الحال بتبعية الكنيسة الإثيوبية للكنيسة القبطية، وكان جميع المطارنة في الكنيسة الإثيوبية من الأقباط حتى كان آخرهم رقم 110 الأنبا كيرلس الذي توفى عام 1951، وبعدها تمت رسامة الأنبا باسيليوس كأول مطران إثيوبي للكنيسة الإثيوبية يوم 14 يناير 1951.

التأثيران الاجتماعي والسياسي

خلال تلك الفترة التي امتدت لستة عشر قرناً لعب أساقفة الأقباط دورا مهما في إثيوبيا في تنظيم الكنيسة ورعايتها وتشكيل تقاليدها، وكذلك لعبوا دورا مهما على المستويين الاجتماعي والثقافي، ونقلوا بالطبع الكثير من الثقافة والتراث الشعبي المصري لإثيوبيا، كما كان لهم دور في الشأن السياسي أيضاً، ومما دعم ذلك الدور هو مكانة الكنيسة هناك وتأثيرها على دوائر الحكم، فقبل الثورة الشيوعية كانت الكنيسة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسة.

ولأن مطارنة الكنيسة هناك كانوا من الأقباط فإن الكنيسة القبطية كان لها دور محوري في توجيه السياسات الإأثيوبية في الكثير من القضايا، وكان هناك نفوذ كبير للمطران القبطي مما جعله ضرورة من ضرورات الحكم ومصدرا من مصادر استقرار البلاد، وكان الولاء الإثيوبي لكرسى الإسكندرية ومطرانهم القبطي مثارا لدهشة الكنائس الأخرى، وكتب عنه الكتاب الغربيون باعتباره لغزا يحتاج إلى تفسير.

وفي ظل وضع الكنيسة القبطية في إثيوبيا وإريتريا ودول حوض النيل من البديهي أن تلجأ السلطة الحاكمة في حال حدوث أي توتر بين هذه البلدان وبين مصر إلي بابا الأقباط للحيلولة دون وقوع أي أضرار تعكر صفو العلاقات بين دول المنابع، وقد لعب البابا كيرلس الرابع دورا وطنياً في تسوية بعض النزاعات بين مصر وإثيوبيا، ولولا قيامه بهذا الدور الوطنى لوقعت الحرب بين البلدين. 

انفصال الكنيسة الإثيوبية

بدأت مطالبات من الكنيسة الإثيوبية بالاستقلال عن الكنيسة القبطية في النصف الأول من القرن العشرين، وفي عصر البابا كيرلس السادس تم توقيع بروتوكول تعاون بين الكنيستين القبطية والإثيوبية، جاء في المادة الرابعة منه رفع مطران إثيوبيا إلي درجة بطريرك جاثليق، وأن يختار وفقا لتقاليد الكنيسة القبطية، وأن يكون من الرهبان الإثيوبيين، ومنحت المادة السادسة من البروتوكول هذا البطريرك الجاثليق حق رسامة مطارنة وأساقفة علي الأماكن التي تري الكنيسة الإثيوبية أنها تحتاج إليهم فيها.

وبموجب هذا البروتوكول تم منح كنيسة إثيوبيا الاستقلال الذاتي، وتمت رسامة الأنبا باسيليوس بطريرك جاثليق في يوم 28 يونيو 1959 في حفل مهيب حضره الإمبراطور هيلاسلاسي، ثم توفي الأنبا باسيليوس في 24 أكتوبر 1970، ولم تتم رسامة خلف له حيث توفي أيضاً البابا كيرلس السادس بعده بحوالي 6 شهور في 9 مارس 1971.

وجاء بعده قداسة البابا شنودة الثالث فقامت الكنيسة الإثيوبية برسامة بطريرك وليس بطريرك جاثليق حسب اتفاقية 1959، كذلك تمت بمعرفتهم بدون مشاركة بابا الإسكندرية حسب نص الاتفاقية أيضا، وعندما قامت الثورة الشيوعية في إثيوبيا عام 1974 أطاحت بالإمبراطور هيلاسلاسي وسجنت البطريرك الإثيوبي، وطلبت من قداسة البابا شنودة الثالث رسامة بطريرك جديد بدلا منه، فرفض البابا شنودة هذا الطلب لأن البطريرك المسجون ما زال علي قيد الحياة ولم تتم محاكمته وثبوت إدانته. 

ولم تأخذ حكومة إثيوبيا برأي قداسة البابا شنودة وقرروا رسامة بطريرك جديد، مما أدي إلي حدوث قطيعة بين الكنيستين، واستمرت هذه القطيعة حتي شهر يوليو 2007 حين توسط بطريرك أرمينيا بين الكنيستين من أجل عودة العلاقات، وبالفعل تم الصلح وعقد اجتماع ثلاثي بين البطاركة الثلاثة في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في شهر يوليو 2007. 

مراحل التوترات

نظراً لرغبة وحرص الكنيسة القبطية على تمدد الكرازة إلى مختلف البلدان الأفريقية، تغافلت عن حساسية العلاقة بين إثيوبيا وإريتريا بسبب الحرب  بينهما وانفصال إريتريا عن إثيوبيا ، وقامت بسيامة خمسة أساقفة إريتريين فى عام 1994، مما أدى إلى توتر العلاقة بين الكنيستين القبطية والإثيوبية، نظراً لرغبة الكنيسة الإثيوبية في أن تظل الكنيسة الإريترية تابعة لها. 

وفي (أبريل 2004) زار قداسة البابا شنودة الثالث إريتريا لتنصيب بطريرك جديد لإريتريا عام 1999 ليكون أول بطريرك لها بعد الاستقلال، وهو ما زاد من حدة التوتر في العلاقات  بين الكنيستين، وأخيراً ما حدث من خلاف بينهما حول دير السلطان في القدس، وما جاء في بيان المجمع المقدس للكنيسة الإثيوبية حول الأزمة يشير إلى نوع من التوتر، حيث حمل البيان أوصافا ومصطلحات لا تتداول بين كنائس شقيقة.

وفي سياق آخر تراجع دور الكنيسة القبطية في إثيوبيا، وظهر هذا التراجع في أكبر صوره بصعوبة قيام الكنيسة القبطية بلعب دور في أزمة سد النهضة، مما يكشف عن بعض الأسئلة المتعلقة بعلاقة الكنيسة بالنظام السياسي وأيهما يؤثر في الآخر، فضلاً عن سنوات الحكم الشيوعي في إثيوبيا التي قد يبدو أنها أثرت على مزاج الشعب الإثيوبي تجاه الكنيسة القبطية.

الكنيسة القبطية في إثيوبيا.. ما بين التبعية الروحية والتوترات السياسية

رابط مصدر المقال